الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلا بد أن يعلم الآباء والأمهات أهمية التربية الجادة لفلذات أكبادهم، ولا نعني بالطبع: أن يتجهم الوالدان في وجوه أطفالهما، أو أن يُغْفِلاَ الحاجات الفطرية لدى الأطفال للحب والحنان واللعب والترويح، وإنما المقصود: ألا يضعف الوالدان أمام الواجب، وألا يستسلما للعاطفة أمام المصلحة الكبرى.
فماذا تنتظر من طفل تمنع الشفقةُ أباه أن يردَّ له طلبًا؛ خوفًا من صراخه، فينطبع في نفسه أن الصراخ والبكاء هما الوسيلة إلى الوصول إلى ما يريد؟! ولذا؛ نجد كثيرًا من أجيال المسلمين اليوم في عدد من بلاد الإسلام لا يجدون في والديهم إلا الإفراط في التدليل والشفقة، أو في الإهمال واللامبالاة؛ ففرّخ ذلك الميوعة والضعف والانهزامية واللامبالاة.
إن تعويد الطفل على ضبط رغباته، والتحكم في شهواته منذ صغره، وتكلف المشقة التي يحتملها في التعود على بعض العبادات قبل بلوغه التكليف قد جاء الشرع به، فهو يؤمر بالصلاة لسبعٍ، ويُضرب عليها لعشر، كما يؤمر بالصوم حتى يتعوده عند بلوغه.
يقول ابن القيم -رحمه الله- في "المودود بأحكام المولود": "وينبغي لوليه أن يجنبه الكسل والبطالة والدعة والراحة، بل يأخذه بأضدادها، ولا يريحه إلا بما يجمّ نفسه وبدنه للشغل، فإن للكسل والبطالة عواقب سوء، ومغبة ندم، وللجد والتعب عواقبًا حميدة، إما في الدنيا وإما في العقبى، وإما فيهما، فأروح الناس أتعب الناس، وأتعب الناس أروح الناس، فالسيادة في الدنيا والسعادة في العقبى لا يُوصَلُ إليها إلا على جسر من التعب".
تصورات مغلوطة:
يخطئ من يظن أن حُسْن التربية يقتصر على الطعام الطيب، والشراب الهنيء، والكسوة الفخمة، والدراسة المتفوقة، ولا يبالون بالتربية على الخُلُق الكريم والتدين الصادق.
ويخطئ من الآباء من يتوهم أن المدرسة هي المكلفة بحمل هذه المسئولية وحدها بعد أن وضعهم في مدرسة -ولو كانت مدرسة تقوم بهذا العبء وتقدره-.
ويخطئ كذلك من يعتقد أن مرحلة الطفولة ليست ذات تأثير كبير في الإنسان، وتكونيه النفسي.
يا معشر الآباء والأمهات.. انتبهوا..!
إننا لا نجد تعبيرًا عن أهمية وخطورة التربية المنزلية في المراحل الأولى أبلغ من قوله -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ) (متفق عليه).
فمن أهم المهمات أن يغتنم الأبوان مرحلة الصِّغر التي يكون الطفل فيها سهلاً سلسًا ليـنًا مُطيعًا؛ ليجنيا ثمرة ذلك في ولدٍ صالحٍ، يأخذ بأيديهما إلى الجنة حين ينقطع عمل ابن آدم إلا من ثلاث: علم يُنتفع به، أو صدقةٍ جارية، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له.
قال الغزالي -رحمه الله-: "والصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذَجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابلٌ لكل ما يُنقش، ومائلٌ لكل ما يُمال إليه، فإن عُوِّد الخير وعُلِّمَه؛ نشأ عليه وسُعِدَ في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه كل مُعلمٍ له ومؤدب".
إن الطفل يستطيع أن يميز بدءًا من الخامسة من عمره، بل قبل ذلك، وهو في هذه السن حتى يبلغ الحُلُم يكون أطوع ما يكون، فإذا ضُيِّعتْ هذه الفرصة وتُركت هذه الصفحة البيضاء؛ اسودّت بفعل المؤثرات السلبية المحيطة، وأصبح القلبُ الأبيضُ أسودَ منكوسًا عنيدًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أُشرب من هواه، وحينئذٍ يستيقظ الأبوان فزعيْن:
ماذا جرى؟! مَنْ هذا الشيطان؟! أين ذهب القلب البرىء ؟!
وماذا نفعل؟ّ! كيف نقوّمُهُ؟!
ولكن هيهات هيهات! فقد شبَّ عن الطوق، وخرج من دفء المهد، ويبس منه العظم والرأس، وصدق فيه قول من قال:
إن الغصون إذا قوَّمتها اعتدلت ولن تلين إذا قوّمتها الخُشُبُ
ومن قال:
إن الغلامَ مطيعٌ من يُؤدبه ولا يُطيعكَ ذو سنِّ بتأديبِ
هل التربية هي التدليل؟
مُرَكب النقص في الشخصية سببه أحد أمرين: الإفراط في التدليل، أو الإفراط في الإذلال والكبت، أما التدليل؛ فلأن الطفل كثير الخطأ، محتاج إلى ضبط سلوكه بصفة مستمرة، تكون في كثير من الأحيان على خلاف مزاجه، كما إن رغبات الطفل لا حدود لها ولا بد من فطامه عن السيِّء منها، كما يُفطم عن ثدي أمه حين يكون أحبَّ شيء إليه.
إنك بالواقع والتجربة تجد الطفل المدلل الذي يجابه الحياة حين يصير رجلاً -إن كان سعيد الحظ- واسع الرزق، أعفته المسئوليات ومواجهة المشكلات، وإن اضطرته أقداره إلى الصراع من أجل حياته؛ فإنه قلما يكون ناجحًا موفقًا معتمدًا على نفسه.
ولا أدل على ذلك من المشهد المتكرر حينما يولد طفل جديد على الطفل الذي كان متربعًا على عرش الأمومة وحده، نجده يتعرض لصدمة نفسية؛ إن لم يكن قد أُعدَّ إعدادًا حكيمًا لمثل هذا الموقف الصعب، وإلا فسرعان ما يكظم في نفسه انفعال الاستياء، ويعمد إلى التبول في الفراش والتأتاة، وغير ذلك من أعراض الكبت الناجم عن المذلة النفسية التي قُدِّرت له.
كما يخطئ من يظن أن القسوة الشديدة هي مقصود التربية، فيتجرد الأبوان من الشفقة والحنان -وليس ذلك ممكنًا أصلاً عند الأسوياء-، فإن البهيمة ترفع رجلها عن ولدها؛ خشية أن تصيبه، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء.